كلمة رثاء ألقاها الأستاذ يوسف سليم نويهض في 14 آب 1969 إبّان تشييع راجح غرز الدين الذي سقط شهيدًا في الأرض المحتلّة في 9 آب 1969.
يا راجح! أنت لم تمت، ولم يمت رفاقك وأمثالك من الفدائيّين الشجعان الذين حاربوا العدوّ الإسرائيليّ مغتصب الديار، ديار فلسطين وديار مصر وديار سوريا وديار الأردن، والمتأهّب للانقضاض على ديار لبنان الحبيب! إنّما الذين ماتوا نحن الأحياء! نحن الراكضين وراء المادّة، نحن المتهافتين على تشييد الدارات والقصور، واقتناء الفخم من السيّارات الأمريكيّة، والتلذّذ بمباهج الدنيا، واستثمار تعب الكادحين، لتتورّم جيوبنا وتنتفخ أوداجنا! نحن الخائفين من الموت!
يا راجح! يا راجح العقل! يا راجح العلم! يا راجح الكرامة! يا معلّم! أنت لم تمت ولن تموت! أمّا من ماتوا فنحن! نحن الجبناء الطمّاعين، نحن الخائفين على فخّارتِنا أن تتَحَطَّمَ! أن يحطّمها العدوّ الصهيونيّ، أن يسحقها اليهوديّ! إنّها فخّارة من عظمٍ وعضلات ودم، ولكنّها من الروح خالية؛ من النفس الأبيّة، من النفس الذكيّة متجرّدة!
قلت: من دمٍ، معاذ الله، التعبير خطأ، ناقص! والصواب: دمٌ جامدٌ حرارته تحت الصفر، لا يتحرّك ولا يجري في الشرايين والعروق!
أنت لم تَهبِ الرّدى، فأنت شجاعٌ بطل! أمّا نحن، نحن الذين ندبّ على أديم الثرى، فمن الموت خائفون! لقد كرهنا الموت، فأحبّه العدوّ المرابط على حدودنا وتجرّأ علينا وتفنّن في تمريغ أنوفنا في التراب!
إنّ من هاب الموت استولى عليه الذلّ، ومن احتقر المنايا كتب له العزّ والحياة! فأنت حيّ يا راجح! لأنّك وهبت الرّدى ذاتك، وآثرت العزّ على المذلّة والهوان! أمّا نحن، معشر المئة مليون، فميّتون، لم تُثرنا، لا بل لم تحرّكنا النكبات المتتالية لا نكبة الثمانية والأربعين، ولا نكبة حزيران، ولا كارثة المطار ببيروت ولا انتهاك حرمة المقدّسات ولا إحراق المسجد الأقصى، أثمنِ الاثار العربيّة وأولى القبلتين، ولا التقتيل في شبّان فلسطين وطرد وتشريد ما ينيف عن مليون ونصف من ميامنهم، ولا تعرية النساء العربيّات على مرأى من الجنود الصهاينة للقهر والتشفّي! لا! لم يُثرنا كلّ ذلك، بل آثرنا المواربة والتلطّي، لأنّنا جبناء أنانيّون خائفون على دمنا أن يسفك! همّنا جمع الدرهم والتنعّم بملاذ المأكل والمشرب والمفرش! أمّا اليهوديّ، المعروف عنه الجبن، فلم يهن عليه دمه وهو يسفكه راضيًا غير وجل، لا ليدافع عن وطنه، بل ليغتصب وطنًا ليس له، ويدقّ إسفينا في قلب الأمّة العربيّة ويوقف عجلة التقدّم فيها!
وأمّا أنت يا فدائيّ، يا راجح، فآثرت الموت على حياة الذُّل!
لقد قال علي بن ابي طالب: "ما غُزِيَ قوم قطّ في عقر دارهم إلّا ذلّوا"! وقد غزانا العدوّ في عقر دورنا، ولم نضطرب ولم نثر حتّى ولم نقتبس درسًا في التضحية وإنكار الذات! أمّا أنت يا مجاهد، فقد اقتبسته وضحّيت بأثمن ما حباك الله، نفسك ودمك، مردّدًا ما قاله الشاعر الجاهليّ العبسيّ:
مــاء الحيــاة بـذلــّة كــجهنّم وجهنـّـم بــالعـزّ أطــيب مــنزل
لقد كنت شابًّا عصاميًّا يا راجح! علّمت نفسك بنفسك، مضحّيًا براحتك لتنال الشهادة الثانويّة، ثم انخرطت في سلك التربية والتعليم وأنت تواصل الطلب في جامعة القاهرة، تبثّ مبادئ الصدق والمحبّة والوطنيّة، وتحارب مرض الحسد المتغلغل في صدور أبناء بلادك! لقد نلت شهادة الدكتوراه في الطبّ النفسانيّ، وأنت في أوّل ربيع العمر، لم تجاوز السادس والعشرين من الأعوام، لتعلّم النشء الصراط المستقيم، فكان أوّل أمثولة علّمتها، تلك التي سطّرتها بحبر أحمر قانٍ، بمداد من دمك! إنّها لأبلغ أمثولة تضاهي ما يستطيع أن يلقّنه أستاذ ضليع من دروس، خلال جيل كامل!
يا راجح، يا معلّم! لقد هديت الفتيان والشبّان الجادّة، المؤدّية إلى الحقّ السليب، ولا طريق أخرى غيرها! هي التي اعتمدها العدوّ المغتصب الباغي في أعماله العدوانيّة، منذ فكّر بسلب فلسطين وطرد أهليها وأصحابها منها! الطريق التي أخذ العدو مخطّطها من هتلر: الحديد والنار، مستندين إلى علم وتنظيم ووعي!
لقد هديت الشبّان طريق استعادة الكرامة وسطّرت صفحة خالدة لن تمحى في سبيل أمّتك! فهنيئًا لك في خلدك! لقد سمعتك مرةً في مسقط رأسك، رأس المتن من قلب لبنان، تردّد قول المتنبّي:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتّى يراقَ على جوانبه الدم
فعرفتُ ماهيّة جوهرك واكتشفت سريرتك وعاد إليّ الأمل في مستقبل أفضل للأجيال المطلّة، وها قد جئت الآن لتؤكّد لي ما كنت أتوقّعه منك وتحيي فيَّ الأمل الأكبر، لا بالقول ولا بحكمة الشاعر المتنبّي، بل بالفعل، بالتضحية الرفيعة، بالدم المهراق في ساحة العراك، في ميدان الجهاد، في معسكر الشرف، بأنّ معركة الغد لنا! لا، لا! لأبناء العروبة الميامين، المناضلين، المستهزئين بالموت، كما استهزأتَ به أنت! الموت المشرّف الذي تجرّعت علقمه، وأنت قرير العين بأنّك أدّيت قسطك من الواجب ولقّنتَ الدرس! فنم هانىء الروح يا راجح !
وأنتم يا تلاميذ راجح ومريديه! ويا رفاق راجح! ويا أخوة راجح! فهنيئًا لكم وهنيئًا للأمّة براجح وبأمثاله! وعزاء يا ابن خليل ويا أم خليل يا ذات القلب الكسير، يا ثكلى، يا أخت الخنساء، عزاء!
أيّها الأخوة، كبارًا وصغارًا، إنّ أمام الشعوب العربيّة، المبتلاة بأخطبوط الصهيونيّة، أيّامًا سودًا ووقائع ستقاسي فيها الآلام والمرارة، سواء كانت متاخمة لفلسطين أم نائية عنها، سواء شاءت أم أبت، فعلينا، ونحن من أبناء هذه الشعوب، أن نتوقّع الأمرّين وأن نصبر! نعم يا آل الفقيد، بالصبر عزاء، والعزاء الأكبر هو أنّ فقيدكم الشاب الواعي فقيد الوطن، شهيدٌ مخلّدٌ في سِجلّ الأبرار الخالدين والسلام عليكم أجمعين!
يوسف س. نويهض